الطريق إلى تاودني

الطريق إلى تاودني

الطريق إلى تاودني

كنت كثيرا ما اسمع هذا الإسم من أفواه القادمين من أزلاي، و اقرأ عنه في كتب الجغرافيا و تقارير الإعلام، و لم أكن احسب تودني إلا ككل تلك البلاد السائبه و الصحاري منزوعة الدسم، تفتقد للسلطة و خالية من كل منجزات الحضارة، غير أنها كانت أصعب من ذلك بكثير، و ابعد من ذلك بأشواط


تنبكتو جنة العبيد

بدأت طريقي إلى تودني كالمعتاد من تنبكتو
تلك المدينة العجائبية ذات الألف وجه، نزلت بها لمدة اسبوع و بدا لي أن الوضع ليس بذلك السوء الذي تصوره الأخبار، و إن كان لي أن أضع له عنوانا فهو الهشاشة ، هشاشة في الأمن هشاشة في السياسة هشاشة في الأخلاق و هشاشة في السلم الإجتماعي.
و بدت لي المدينة بعيدة عن كل أوصافها الفضائلية التي سطرها الاقدمون
في هذه المدينة اللعينة ذات الثلاثمائة و الثلاث والثلاثين "بغيا" وليس وليا (كما يشاع) كل شيء بدا ممسوخا و متغيرا، في الشوارع التي ظهرت لي أكثر ضيقا مما اتذكرها عليه و الوجوه المكفهرة المطلية بالحقد من كل الأجناس، و البيوت الصامتة مثل تلال حجرية صماء، وجدت الحياة تسير بإيقاع بطيئ كأننا في سجن كبير من المحكوم عليهم بالإعدام .
و رغم تنوع السكان من عرب تجار شديدي البداوة، و طوارق جامحين يمارسون الحياة بخجل و إنكفاء، و زنوج متحفزين مسكونين بعقدة النقص من عصور غابرة، -رغم كل هذا التنوع- إلا أن في المدينة صنف واحد هم المستفيدون من هذا المآل، إنهم العبيد السابقون احفاد مجتمعات الرق في أزواد و منطقة النهر، لقد أصبحت المدينة بر الأمان لهم و فرصتهم المواتية ليلقوا عن كاهلهم كل أثقال العبودية و الإستضعاف، و يجدوا أنفسهم في معجرة جعلتهم أسياد أسيادهم السابقين، و تحولت تنبكتو بحق إلى جنة للعبييد !.


و لقد سرت في شوارع تنبكتو كشرطي تحقيق، أتلمس الأدلة و أجمع خيوط الجريمة، غير أنني لا اعرف في اي جريمة أحقق!
هل هي جريمة التغير الدمغرافي الذي أحال المدينة إلى كور إفريقي صاخب بعد أن كانت مدينة من المور ذات اغلبية بيضاء، كما يذكر الرحالة و المستكشفون و كما يشهد سجلها العقاري من العهد القريب
ام جريمة التغير البيئي و المناخي الذي قطع عن المدينة التفرعات و الترع التي كانت تصلها من نهر النيجر القريب؟.
أم هي جريمة التصفيات العرقية، التي تطال ذوي البشرة البيضاء كلما أخذت المدينة نوبة من نوبات الفوضى التي أعتادتها كل بضع سنين.

و لقد بدا لي كم هي فظيعة جرائم الإنبريالية في حق هذه الشعوب المسكينة، التي قهرتها ردحا من الزمن ثم سلمتها لكنتونات سياسيه تسمى دولا، مؤلفة من جغرافيا متنافرة و أعراق يعوزها الإنسجام
دول ذات خرائط غريبه هي اشبه بمولود مشوه غير قابل للحياة
كم هو مؤلم سلخ الأوطان من أهلها .

الصحراء الغذراء

نحو الشمال تتسع الصحراء أمامك كلما تقدمت فيها، كأنما تفتح ذراعيها بإشارة ترحيب لا تنتهي حتى تستنزف كل قوة لديك لمواصلة التقدم .
هناك حيث معاني الأشياء أكبر من حقيقتها الواقعية، فقد تسمع عن موضع ما و تقرأ عن أحداث تاريخية جسام وقعت عليه و تسمع عن ابطال خارقين ارتبطوا به، بيد أنك إذا وصلت إليه تجده قاعا صفصفا، لا أنيس فيه و لا حراك، إلا رقصات الرياح الباكية والتي تتعاهده بالنسف و التعريه، كأنما تشطب كل سطر من الحياة يمكن أن يكتب عليه
هناك يتوقف الزمن و تبدو الأرض منسية من خرائط الجغرافيا الحديثة .
ورغم قسوة الظروف مزال إنسان تلك الأرض يعيش عليها بكل ما أوتي من إرادة في حب البقاء

أحياء متنقلة من البدو الرحل يتشبثون بلحظة من الزمن الغابر و لا يقبلون أن يتجاوزوها نحو أي مستقبل. و حينما تأملت طريقتهم في الحياة أكتشفت حقيقة مخجلة، و هي أنهم مجرد عبيد مسخرين في خدمة مخلوقات ملكية، تجوب تلك الصحاري تسمى الإبل!، إنهم يصعدون معها حين تصعد و ينزلون معها إذا نزلت، يتكيفون مع ما تمليه عليهم هي من الظروف بدل من أن يكيفوها هم مع ما يناسبهم
يتبع .... (ولد سيد محمد إبراهيم
)

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الطالب مصطف القلاوي

النابغة الغلاوي